عرب بت – تظاهر الآن أنك في منتدى “دافوس” تجلس بين نخبة العالم المالية. وتقابل وجهاً لوجه لجنة مكونة من مصرفيين مركزيين مرموقين. فترفع يدك ببطء لتسأل سؤال المليون: “هل يستطيع أحدكم أن يخبرني ما هي البيتكوين؟” وبعد لحظة من صمت الذهول، تهدر أصوات الجمهور ضاحكةً. وبينما تضمحل الضحكة شيئاً فشيئاً، سيبدأ “أسياد عالم الدَّين” خطابهم المعتاد:
إنها إحتيال (جيمي دايمون)، الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان
لا أعرف… لكنها سوف تنتهي بشكل سيء (وارن بافت)، رئيس مجلس إدارة شركة بيركشير هاثاواي
إنها فقاعة مضاربة فقط مخطط”بونزي” للإحتيال، ومدعومة بلا شيء، إنها لا شيء البتة. (راي داليو) مؤسس «بريدجووتر أسوشيتس»
إذاً، ما هي البيتكوين؟
موقف الجهات التنظيمية
في الثامن من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري، كان بنك الإحتلال في إسرائيل آخر بنك مركزي يصدر بياناً صحفياً يحاول من خلاله تحديد ماهية البيتكوين أو –بشكل أفضل- ما هي ليست عليه.
وها هم ينطلقون: “ليست البيتكوين ومثيلاتها من العملات الرقمية عملات أساساً، ولا تعتبر أيضاً عملة أجنبية، وينبغي مشاهدتها على أنها أصول مالية“.
وبالنسبة إلى ولاية نيويورك، فإن البيتكوين عبارة عن: “وحدة رقمية تستخدم كوسيلة للتبادل التجاري أو شكل من أشكال القيمة المخزنة رقمياً“.
والبيتكوين برأي هيئة الرقابة المالية الفدرالية الألمانية عبارة عن “وحدة حساب” وبالتالي فهي “أداة مالية“.
وكانت هناك أيضاً محاولات تعريف أكثر شمولاً قامت بها الرابطة المصرفية الأوروبية (EBA) وبنك إيطاليا، واللذان عرفا البيتكوين على أنها: “تمثيل رقمي لقيمة ليست صادرة عن بنك مركزي أو هيئة عامة، فيما ليست بالضرورة أيضاً ترتبط بعملة ورقية، لكنها تستخدم على يد الأفراد الطبيعيون والقانونيون كوسائل للتبادل التجاري، ويمكن نقلها وتخزينها وتداولها أيضاً إلكترونياً”.
وعلى عكس ذلك تماماً، لم يتخذ بنك بريطانيا وسلطة السلوك المالي البريطانية (FCA) موقفاً بشأنها. بل وفي الحقيقة، فقد مضت سلطة السلوك إلى حد أن صرحت بأنها لا تنظم العملات الرقمية، في حين لا تعتزم ذلك أيضاً.
المال والعملة في التاريخ
دعونا نرى كيف يعرف التاريخ النقدي كلاً من العملة والمال. والمال يأتي أولاً.
تاريخياً، كانت هناك أشكال كثير للمال، ولكن بالنظر فقط في العصر الحديث، يمكن للمرء أن يحدد أساساً شكلين من أشكال النقود: مال تمثير السلع الأساسية والعملات الورقية. وقد كان الذهب والفضة عبر التاريخ، كمال لإبتياع السلع، أنقى أشكال المال. وذلك لأن لديهما قيمة استخدام مضمنة، فيما لا يمكن تخفيض قدرهما. وفي أوائل القرن الماضي، مع معيار الذهب –أصبح مال السلع “ممثل مال السلع”- لاسيما وأنه كان إحتياطي العملات الرقمية وقابل للإسترداد إلى الذهب. لكن نظامنا الحالي يعتمد بدلاً من ذلك فقط على العملات الورقية التي لا تملك قيمة جوهرية وغير قابلة للإسترداد والتعويض –والتي تقر قيمتها الحكومة التي تجعلها العملة القانونية داخل الدولة. وينبغي أن يكون للمال بعض الخصائص الأساسية، مثل أن يكون
1- وسيط للتبادل التجاري 2- وحدة حساب 3- ومخزن للقيمة.
ويجب أن يكون المال أيضاً قابلاً للإستبدال ومحولاً ودائماً ويمكن إدراكه والتعرف إليه.
وعندما يدور المال داخل نظام إقتصادي ويتم قبوله كوسيلة للدفع –في الأوراق المالية المصرفية والعملات المعدنية– يصبح في ظل ذلك عملةً أيضاً. وهو من هذا المنطلق أساساً: “نظام مالي مقبول بشكل عام يدور داخل النظام الاقتصادي“. وبالتالي فإنك يمكن أن تملك مالياً يمكن أن يكون علمة في الوقت ذاته، أو مال ليس بعملة. وعلى سبيل المثال، فقد كانت الأموال –أفضل الأمثلة الذهب والفضة– أيضاً عملات على مدى التاريخ حتى بريتون وودز. واليوم، يستطيع المرء أن يجادل بأنها لم تعد عملة، لكنها مع ذلك تبقى أنقى شكل من أشكال الأموال. وعلى الرغم من ذلك، لنكون أكثر دقة، ما تزال بعض العملات المعدنية من الذهب اليوم عملة قانونية في القيمة الإسمية في الولايات المتحدة وبالتالي فهي ما تزال عملة. وفي العام 1912، قال جي بي مورغان –عندما استدعي إلى المحكمة للشهادة أمام الكونغرس الأميركي، كلماته الشهيرة: “الذهب هو المال، وكل شيء آخر هو إئتمان“.
وعلى الجانب الآخر، لديك كامل الأوراق المالية للقرون الأربعة الماضية –غولدن الهولندية، والريال الإسباني والجنيه الإسترليني الإنجليزي– التي كانت نقوداً في الوقت ذاته الذي خدمت فيه أيضاً كإحتياط عملات، والتي إنهارت قيمتها إلى الصفر ولم تعد موجودة اليوم كشكل من أشكال النقود.
ميزات البيتكوين
دعونا نرى كيف تنساب البيتكوين في هذا الإطار:
كما اعترفت بها الهيئة المصرفية الأوروبية (EBA)، تمتلك البيتكوين خواص المال، مثل أن تكون وحدة حسابية أو وسيلة للتبادل التجاري. وتتمثل الشكوك الوحيدة في تخزين القيمة وميزات الإستقرار، والتي يصعب إعزائها للبيتكوين في ظل أن هذه العملة الرقمية كثيرة التقلب. ومع ذلك، يستطيع المرء أن يقول أن هذه الميزة نفسها بالكاد يمكن نسبها أيضاً إلى أي من العملات الورقية، وذلك بالنظر إلى سياسات مصرفنا المركزي الخاصة بالتخفيض النقدي والتضخم النقدي. ويكفينا الاستدلال من خلال النظر في رسم بياني للدولار الأميركي مقابل الذهب من العام 1970 حتى يومنا هذا حتى نفهم أن الدولار الأميركي ليس مخزنا للقيمة. ويعود تقلب البيتكوين أيضاً إلى إفتقارها للسيولة وسوقها الصغيرة، فضلاً عن الإنتقاص للتنظيم وعمرها الصغير. وسوف يتم إصلاح جميع هذه المسائل مع مرور الوقت.
والبيتكوين قابلة للإستبدال قابلة للنقل ودائمة ومعترف بها، مثل ما ينبغي على النقود أن تكون عليه.
ومع ذلك، ليست البيتكون نقود سلع أو مالاً ورقياً. لكن التعريف التاريخي للمال لا يمكن أن يبقى ثابتاً في مواجهة التطورات التكنولوجية. فقد أصبح من الواضح أن الشكل الرقمي للمال أصبح معترف به أيامنا هذه. ورغم ذلك، فإذا كان المرء يتقبل بسهولة جميع أشكال النقد الرقمي، الغير مشتقة من العملات الورقية أو من السلع، على غرار البيتكوين، فإن عليه بلا شك أن يتقدم خطوة أخرى. وفي الواقع، قبل البيتكوين لم يبني أي شكل من أشكال المال فقط على “الثقة”. نعم، فالسبب يعود إلى أن ما يقف خلف البيتكوين ليس حكومة أو سلعة ذات قيمة جوهرية. لذلك تعتمد البيتكوين فردياً على الثقة التي يضعها فيها المستخدمون والقائمون على تعدينها، بالإضافة إلى المستهلكين. ولهذا السبب، فإنه من المهم جداً تحليل ما تعنيه “الثقة” هنا.
الثقة بالمال
لدينا نوعين من الثقة بالمال: الثقة الموضوعية أو الجوهرية والثقة الذاتية أو العرضية. والأولى هي نوع الثقة التي يضعه الشخص في مال السلع. بحيث يثق المرء بأن الطبيعة الأم جعلت من الذهب معدناً نادراً كافية ومكلف الإستخراج من أجل ضمان إمدادات محدودة منه. ويثق المرء بندرته هنا موضوعياً. ويتأصل هذا النوع من الثقة في معادن الطبيعة الثمينة. ومن ثم لديك الثقة بالمال الورقي، الأمر ذاتي، عرضي، مما يعني أن عليك أن تثق بمجموعات من الأفراد أو المجتمعات –مثل الحكومات والسلطات الأخرى كمصرفيي البنوك المركزية- لتعمل بطريقة لا تهدد المالية الحكومية وعملاتها الورقية. ويوضح بنك بريطانيا، على سبيل المثال، أن الثقة بعملة الجنيه الإسترليني الورقية يتجذر من تدابير لتجنب التزوير وانخفاض التضخم النقدي… ولوضع الأمر ببساطة، فأنت تثق بأن الحكومة لن تسيء استخدام مطابع العملة -وباختصار- أنها ستكون قادرة على سداد ديونها والبقاء كذلك. فإذا ما كان هذا النوع من “الثقة التي غرستها الحكومة” وحدها من تدعم العملات الورقية، هل سيكون للناس عندها أسباب أكثر للثقة بحكوماتهم (على سبيل المثال العملات الورقية) أو الخوارزمية الحسابية (مثل البيتكوين)؟ إن السؤال بأي حال من الأحوال صغيرة جداً.
فبالكاد يستطيع المرء أن يدحض أن شكل الثقة الموضوعي الجوهري يعظم الثقة الذاتية العرضية بكثير. ولا يمكن تصنيف النوع الثاني إلا وفقاً لسلجه التاريخي. ولسوء الحظ، فإن السجل التاريخي للعملات الورقية سيء للغاية. والإجابة مرة أخرى هي سيرة سيسارو الذاتية. ولأن التاريخ يثبت في نهالية المطاف أن الناس عندما يتمتعون بالحوافز –مثل تلك التي تمتلكها الحكومات والسياسيين والنخب الاقتصادية في خلق عملات جديدة- فإنهم سيتصرفون دائماً بناءاً عليها. والنتيجة هي أن أياً من العملات الورقية في التاريخ نجت من مرحلة الإنحطاط والإندثار الحتمية. وسوف يكون هناك دائماً روزفيت آخر، ونيكسون آخر، ومزيد من إدارة رؤوس الأموال لوقت طويل، وليمان آخر، والمزيد من خطط الإنقاذ، والمزيد من التيسير الكمي… ودعونا لا ننسى أن هذا النوع من الثقة الذاتية يمكن يضيع بسهولة، وعندما حدث ذلك في التاريخ، كانت النتيجة إنهيار الإمبراطوريات الماضية – أو في العصر الحديث- حالات التضخم الجامح في فايمر أو الأرجنتين أو زمبابوي أو فنزويلا.
وهذا هو السبب الأساسي الذي يوضح لماذا تعتبر الخوارزمية الحسابية –التي تضمن عدم الإزدواحية والانفاق المزودج، إلى جانب الأمن والشفافية في دفتر الأستاذ العام- جديرة بالثقة الموضوعية الجوهرية في حين أن الدول وعملاتها الورقية ليست كذلك. وهذه حجة كبيرة لصالح البيتكوين.
وإذا ما كان المرء يتفق على هذه المسألة الرئيسية للثقة، إذا لن يكون المال الرقمي مثل البيتكوين مجرد مال، وإنما يتفوق أيضاً على أي عملة ورقية أيضاً. وحتى مؤسسة “غولدمان ساكس” المالية، فقد غيرت رأيها مؤخراً وأصبحت توافق الآن على أن البيتكوين هو مال فعلي.
ليست عملةً بعد
إذا كانت البيتكوين نقوداً بلا شك، فهل يمكن إعتبارها عملةً أيضاً؟ ليس بعد. لكنها ربما تمسي عملةً في المستقبل، وهذا يعتمد على مدى تطور البيتكوين إلى نظام مالي مقبول عموماً في النظام الاقتصادي العالمي. وعلى سبيل المثال، ليس الإيثر (ETH) مجرد شكل من أشكال المال كالبيتكوين، إنما أصبح -لجميع الأغراض- عملة اليوم. وهذا يعود إلى أنه بلا شك نظام دفع مالي مقبول بشكل عام في مجتمع الإثيريوم. ولذلك، فإنه يؤدي وظيفتي المال (الرقمي) والعملة (الخاصة). ومع ذلك، لا تؤدي البيتكوين –على النقيض الـ (ETH) في مجتمع الإثيريوم- وظيفة “نافعة” داخل نظام مغلق، ولهذا السبب يجب أن يتم استخدامها بشكل أوسع في الاقتصاد العالمي قبل أن تعتبر عملةً (عالمية).
الإستنتاجات
إذاً، فإذا ما كان تعريف البيتكوين كنقود يبدو بعد كل شيء ممارسةً مباشرة تماماً، لماذا لا يقول أي شخص (تقريباً) ذلك؟ الأسباب المحتملة سياسية واقتصادية على حد سواء، مع الآثار الجيوسياسية لصيقة الإرتباط بالـ”ثقة” في العملات الورقية. وفي الواقع، فإن الاعتراف بأن البيتكوين هي مال حقيقي (متفوق على العملات الورقية) وأنها قد تصبح عملةً رقمية عالمية بديلة في المستقبل، يمكن أن يشكل تهديداً للنظام المالي الحالي المستند إلى إنشاء إئتمانات لا نهائية وإلغاء العملات الورقية. والشخص الذي يعترف بذلك هي رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، والتي تعدم “عدم رفض العملات الرقمية مثل البيتكوين لأنها يمكن أن تجعل النقود المدعومة حكومياً والسياسة النقدية (تجري للحاق بأموالها) في المستقبل”. وقال رئيس مجلس إدارة شركة المحاماة “سولوفان آند كروميل”، رودجين كوهين، أكثر أو أقل من ذلك على تلفزيون “بلومبيرغ”: “ربما تشكل العملات الرقمية في المستقبل تهديداً مباشراً لسياسات الاحتياطي الفدرالي وغيره من البنوك المركزية، وكذلك لوضع احتياطي الدولار عالمياً.
ولا يمكن للمرء إلا أن يتفق أكثر مع ذلك.
_________
المصدر : CCN
اشكرك اخ محمد وعلى القائمين بهذا الموقع الرائع
تقبلوا تحياتي